سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قلت: {الذين صبروا}: نعت للذين هاجروا، أو على تقدير: (هم)، أو نصب على المدح.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والذين هاجروا في الله} أي: طلب رضا الله، أو: في نصر دينه، أو: طلب معرفته، {من بعد ما ظُلموا}؛ من بعد ما ظلمهم الكفار بالإيذاء والتضييق، وهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون. ظلمهم قريش وضيقوا عليهم، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وبعضهم إلى المدينة. قال ابن عطية: الجمهور أنها نزلت في الذين هاجروا إلى أرض الحبشة؛ لأن الآية مكية، وهجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية. اهـ.
قلت: والمختار: العموم، ويكون من جملة الإخبار بما سيقع، أو: هم المحبوسون المعذبون بمكة، بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم بلال، وصُهَيب، وعمَّار، وخَبَّاب، وأبو جَنْدَل بن سُهَيل؛ أو: كل من هاجر من بلده؛ لإقامة دينه.
{لنبوِّئنَّهم في الدنيا حسنةً} أي: لننزلنهم في الدنيا بقعة حسنة، وهي المدينة، أو منزلة حسنة، وهي العز والتمكين في البلاد، وكل أمل بَلَغَهُ المهاجرون، أو حياة حسنة، وهي الاستقامة والمعرفة. {ولأجرُ الآخرة أكبرُ} مما يُعجل لهم في الدنيا؛ من سعة الأموال، وتعظيم الشأن والحال، وهو النعيم الدائم. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان، إذا أَعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه من قسمْ الغنائم، يقول له: (خذ، بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل). والضمير في قوله: {لو كانوا يعلمون} لكفار قريش، أي: لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين، أي: لو علموا أن أجر الآخرة خير مما عجل لهم لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
ثم وصفهم بالصبر والتوكل فقال: {الذين صبروا} على الشدائد، كأذى الكفرة، ومفارقة الوطن، ونزول الفاقة، {وعلى ربهم يتوكلون} فيما نزل بهم، منقطعين إلى الله، مفوضين إليه الأمر كله، فآواهم إليه، وكفاهم كل مؤونة، ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
الإشارة: والذين هاجروا حظوظهم وهواهم وكل ما نهى الله عنه؛ ابتغاء مرضات الله، أو فارقوا أوطانهم وديارهم في طلب معرفة الله، كما فعل كثير من الصوفية، فقلَّ أن تجد وليّا إلا وهاجر من بلده؛ لإقامة دينه وجبر قلبه، وإفراغ سره لربه، من بعد ما ظُلموا بإيذاء الخلق- كما هو سنة الله في خواصه- لنبوئنهم في الدنيا حسنة، وهي معرفة الشهود والعيان في الباطن، واستقامة الدين والعافية في الظاهر. هذا في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر؛ إذ فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس، وحط الرؤوس، ودفع الفلوس، أو على ضروب الفاقات، ونزول البليات، وركوب الأهوال والآفات، إذ لا يأتي الجمال إلا بعد الجلال، ولا تأتي الحلاوة إلا بعد المرارة:
لا تَحْسَب المجْد تمرًا أنت آكلُه *** لنْ تبلُغَ المجْدَ حتَّى تلْعَقَ الصبْرا
وعلى ربهم يتوكلون، أي: مفوضين في أمورهم كلها لله، ليس لهم مع الله اختيار، ولا لهم عن أنفسهم إخبار، بل هم كالميت بين يدي الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر... آمين.


قلت: {بالبينات}: يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية، على التقديم والتأخير، أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، فاسألوا أهل الذكر، أو بأرسلنا؛ مضمرًا، وكأنه جواب سائل قال: بم أُرسلوا به؟ فقال: بالبينات، أو: صفة لرجال، أي: رجالاً ملتبسين بالبينات، أو: بيوحى. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في الرد على قريش، حيث قالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا: وما أرسلنا من قَبْلِكَ يا محمد {إلا رجالاً} بشرًا، {يوحى إليهم} كما يُوحى إليك. فليس ببدع أن يكون الرسول بشرًا، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرًا يوحى إليه على ألسنة الملائكة؛ إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم. فإن شككتم {فاسألوا أهل الذكر}: أهل الكتاب، أو علماءهم الأحبار، أي: الذين لم يسلموا، لأنهم لا يتهمون في شهادتهم، من حيث إنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم إلى تصديق من لم يؤمن من أهل الكتاب أقرب من تصديقكم المؤمنين منهم، فاسألوهم؛ ليخبروكم: هل كانت الرسل ملائكة أو بشرًا، {إن كنتم لا تعلمون} ذلك.
قال البيضاوي: وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكًا للدعوة العامة. وأما قوله: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [فَاطِر: 1]؛ فمعناه: رسلاً إلى الأنبياء. وقيل: لم يُبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال. ورُدَّ بما رُوي أنه عليه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين. وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم. اهـ. ومفهوم قوله:الدعوة العامة أن الدعوة الخاصة؛ كالأنبياء- عليهم السلام-، فإن الله يبعث إليهم الملك ليعلمهم أمر دينهم.
ثم قال تعالى: {بالبينات والزُّبر} أي: أرسلناهم بالمعجزات والكتب. {وأنزلنا إليك الذكر} أي: القرآن؛ لأنه تذكير ووعظ، {لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم} من الأحكام، مما أمروا به ونهوا عنه، ومما تشابه عليهم منه. والتبيين أعم من أن ينص على المقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه، كالقياس ودليل العقل. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: يحتمل أن يريد: لتبين القرآن بسردك نَصَّهُ وتعليمِهِ، أو لتُبين معانيه بتفسير مُشكله، فيدخل في هذا ما سنته السنة من الشريعة. اهـ. {ولعلهم يتفكرون} في عجائبه وأسراره، فيخوضون بسفن أفكارهم في تيار بحر معانيه وأنواره، فينتبهون للحقائق والشرائع.
الإشارة: كما لم يبعث الله في الدعوة العامة- وهي دعوة الرسالة- إلا رجالاً من البشر، كذلك لم يبعث الله في الدعوة الخاصة- وهي دعوة الولاية إلى سر الخصوصية- إلا رجالاً من البشر أحياء، يُربون التربية النبوية العرفية، فلا يصلح للتربية النساء؛ لقلة عقلهن، ولا الجن؛ لانحرافه عن الاعتدال الذي في البشر، ولا الميت؛ لعدم وجود بشريته؛ فإنَّ بشرية الحي تمد البشرية، والروحانية تمد الروحانية.
فلا تتهذب البشرية إلا بشهود بشرية الشيخ، ولا تصفى الروحانية إلا بالقرب من روحانية الشيخ. ولذلك قالوا: الثدي الميتة لا تُرضع. وقولنا: {التربية العرفية}؛ أعني: بالصحبة العرفية، وأما التربية الغيبية، على وجه خرق العادة، كطيران الشيخ إلى المريد، أو المريد إلى الشيخ، فلا تجد صاحب هذه التربية إلا منحرفًا لإحدى الجهتين، إما إلى الحقيقة أو إلى الشريعة، بخلاف التربية العرفية، فلا يكون صاحبها، في الغالب، إلا معتدلاً كاملاً.
وقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر}؛ هم العارفون بالله، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب؛ كأسرار التوحيد، وأمر الخواطر، رجعنا إليهم؛ لأنهم أهل الذوق والكشف، يُجيبون سائلهم بالهمة والحال، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل، إن أتاهم متعطشًا لهفانًا، وكذا ما أشكل في أمر الدنيا، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه، فينبغي الرجوع إليهم؛ لأنهم ينظرون بنور الله، فلا ينطقهم الله إلا بما هو حق سبق به القدر. وأما أمور الدين، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه، وإن لم يكن له علم بالظاهر، فالعلماء قائمون بهذا الأمر.
وقوله تعالى: {إن كنتم لا تعلمون}؛ يُفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن الله، يأخذ العلم عن الله بإلهام أو تجل حقيقي، فلا يحتاج إلى سؤالهم، حيث صفت مرآة قلبه، وقد يكون الولي ذاكرًا، باعتبار قوم، وغير ذاكر، باعتبار آخرين، الذين هم أنهض منه حالاً، وأصوب مقالاً. والله تعالى أعلم.


قلت: {مكروا السيئات}: صفة لمحذوف، أي: المكرات السيئات، والتخوّف، قيل: معناه: التنقص، وهو أن تنقصهم شيئًا فشيئًا. رُوي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم توقف في معناها، فقال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخوف: التنقص. فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم. قال شاعرنا أبو كثير يصف ناقته:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَاً *** كَمَا تَخوَّفَ عُودَ النَّبَْعةِ السفَنُ
فقال عمر: عليكم بديوانكم؛ لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية؛ فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. اهـ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أفأمِنَ الذين مَكروا} المكرات السيئات برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، حيث قصدوا ردّ دينه، وصدوا الناس عن طريقه، {أن يَخْسِفَ اللهُ بهم الأرض} كما خسف بقارون، {أو يأتيهُم العذاب من حيث لا يشعرون} أي: بغتة من حيث لا يظنون، كما فعل بقوم لوط، {أو يَأخذهم في تقلبهم}؛ في متاجرهم ومسايرهم في طلب معاشهم، {فما هم بمعجزين}؛ بفائتين قدرتنا حتى نعجز عن أخذهم، {أو يأخذهم على تَخوُّفٍ}: على تنقص، بأن ينقص أموالهم وأنفسهم، شيئًا فشيئًا، حتى يهلكوا جميعًا، من غير أن يهلكهم جملة واحدة. وعليه يترتب قوله: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} حيث لم يهلكهم دفعة واحدة، أو: على تخوف: على مخافة بأن يهلك قومًا قبلهم، فيتخوفوا، فيأتيهم العذاب وهم متخوفون. وهو قسيم قوله: {وهم لا يشعرون}، وقوله: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} أي: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما خوف به أهل المكر بالأنبياء والرسل، يُخوف به أهل المكر بالأولياء والمنتسبين، وقد تقدم هذا مرارًا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8